صفةٌ فعليةٌ خبريَّةٌ ثابتةٌ لله عَزَّ وجَلَّ في كتابه العزيز.
• الدليل :
قولـه تعالى :
«وَإِذَا لَقُوا الذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ» [البقرة : 14-15].
قـال ابن فارس في ((مجمل اللغة)) (ص 904) :
الهزء : السخرية ، يُقال: هزيءَ به واستهزأ
وقال ابن جرير الطبري في تفسير الآية بعد أن ذكر الاختلاف في صفة الاستهزاء :
والصواب في ذلك من القول والتأويل عندنا : أنَّ معنى الاستهزاء في كلام العرب : إظهار المستهزِيء للمستَهْزَأ به من القول والفعل ما يرضيه ظاهراً ، وهو بذلك من قِيِله وفعلِه به مورثه مساءة باطناً ، وكذلك معنى الخداع والسخرية والمكر
ثم قال :
وأما الذين زعمـوا أنَّ قول الله تعالى ذكره
«اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ» إنما هو على وجه الجواب ، وأنه لم يكن من الله استهزاء ولا مكر ولا خديعة ؛ فنافون عن الله عَزَّ وجَلَّ ما قد أثبته الله عَزَّ وجَلَّ لنفسه وأوجبه لها، وسواءٌ قال قائل : لم يكن من الله جل ذكره استهزاء ولا مكر ولا خديعة ولا سخرية بمن أخبر أنه يستهزئ ويسخر ويمكر به ، أو قال : لم يخسف الله بمن أخبر أنه خسف به من الأمم ولم يغرق من أخبر أنه أغرقه منهم.
ويقال لقائل ذلك : إنَّ الله جل ثناؤه أخبرنا أنه مكر بقوم مضوا قبلنا لم نرهم ، وأخبرنا عن آخرين أنه خسف بهم ، وعن آخرين أنه أغرقهم ، فصدقنا الله تعالى فيما ذكره فيما أخبرنا به من ذلك ، ولم نفرق بين شيء منه؛ فما برهانك على تفريقك ما فرقت بينه بزعمك أنه قد أغرق وخسف بمن أخبر أنه أغرقه وخسف به ، ولم يمكر بمن أخبر أنه قد مكر به؟!
وقال قوَّام السنة الأصبهاني في ((الحجة)) (1/168) :
وتولى الذب عنهم ( أي : عن المؤمنين ) حين قالوا : «إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ»، فقال : «اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ» ، وقال : «فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ» ، وأجاب عنهم فقال : «أَلا إِنَّهُمْ هُمْ السُّفَهَاءُ» ؛ فأجل أقدارهم أن يوصفوا بصفة عيب ، وتولى المجازاة لهم ، فقال «اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ». وقال«سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ» ؛ لأن هاتين الصفتين إذا كانتا من الله ؛ لم تكن سفهاً ؛ لأن الله حكيم ، والحكيم لا يفعل السفه ، بل ما يكون منه يكون صواباً وحكمة
وقال شيخ الإسلام في ((الفتاوى)) (7/111) رداً على الذين يدعون أنَّ هناك مجازاً في القرآن :
وكذلك ما ادعوا أنه مجاز في القرآن كلفظ (المكر) و(الاستهزاء) و (السخرية) المضاف إلى الله ، وزعموا أنه مسمى باسم ما يقابله على طريق المجاز ، وليس كذلك ، بل مسميات هذه الأسماء إذا فعلت بمن لا يستحق العقوبة ؛ كانت ظلماً له ، وأما إذا فعلت بمن فعلها بالمجني عليه عقوبة له بمثل فعله ؛ كانت عدلاً ؛ كما قال تعالى :
«كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ» فكاد له كما كادت اخوته لما قال له أبوه
«لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً» ، وقال تعالى :
«إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا» وقال تعالى :
«وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُون َ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ» وقال تعالى :
«الذِينَ يَلمِزُونَ المُطَّوِّعِينَ مِنْ المُؤْمِنِينَ فِي الصـَّدَقَاتِ وَالذِينَ لا يَجـِدُونَ إِلا جُهـْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَـخِرَ اللهُ مِنْهُمْ» ولهذا كان الاستهزاء بهم فعلاً يستحق هذا الاسم ؛ كما روى عن ابن عباس ؛ أنه يفتح لهم باب من الجنة وهم في النار ، فيسرعون إليه ، فيغلق ، ثم يفتح لهم باب آخر ، فيسرعون إليه ، فيغلق ، فيضحك منهم المؤمنون.
قال تعالى «فَاليَوْمَ الذِينَ آمَنُوا مِنْ الكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ هَل ثُوِّبَ الكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ».
وعن الحسن البصري : إذا كان يوم القيامة ؛ خمدت النار لهم كما تخمد الإهالة من القدر ، فيمشون ، فيخسف بهم.
وعن مقاتل : إذا ضرب بينهم وبين المؤمنين بسور له باب ؛ باطنه فيه الرحمة ، وظاهره من قبله العذاب ، فيبقون في الظلمة ، فيقال لهم : ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً.
وقال بعضهم : استهزاؤه : استدراجه لهم.
وقيل : إيقاع استهزائهم ورد خداعهم ومكرهم عليهم.
وقيل : إنه يظهر لهم في الدنيا خلاف ما أبطن في الآخرة.
وقيل : هو تجهيلهم وتخطئتهم فيما فعلوه.
وهذا كله حق ، وهو استهزاء بهم حقيقة
وانظر كلام ابن القيم في صفة (الخداع) ، وكلامه في ((مختصر الصواعق المرسلة)) (2/34).
المصدر: كتاب "صِفَاتُ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ الْوَارِدَةُ فِي الْكِتَابِ وَ السُّنَّة"ِ