ثم شرع رحمه الله في ذكر معنى الحركة عند المتكلمين والفلاسفة وأصحاب أرسطو وأنواع الحركة إلى أنْ قال (5/577) :
أحدها : قول من ينفي ذلك مطلقاً وبكل معنى وهذا أول من عرف به هم الجهمية والمعتزلة
والقول الثاني : إثبات ذلك ، وهو قول الهشامية والكرامية وغيرهم من طوائف أهل الكلام الذين صرحوا بلفظ الحركة
وذكر عثمان بن سعيد الدارمي إثبات لفظ الحركة في كتاب نقضه على بشر المريسي ، ونصره على أنه قول أهل السنة والحديث ، وذكره حرب بن إسماعيل الكرماني - لما ذكر مذهب أهل السنة والأثر - عن أهل السنة والحديث قاطبة ، وذكر ممن لقي منهم على ذلك : أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، وعبد الله بن الزبير الحميدي ، وسعيد بن منصور ، وهو قول أبي عبد الله بن حامد وغيره.
وكثيرٌ من أهل الحديث والسنة يقول : المعنى صحيح ، لكن ؛ لا يطلق هذا اللفظ ؛ لعدم مجيء الأثر به ؛ كما ذكر ذلك أبو عمر بن عبد البر وغيره في كلامهم على حديث النُّزول.
والقول المشهور عن السلف عند أهل السنة والحديث : هو الإقرار بما ورد به الكتاب والسنة ؛ من أنه يأتي وينْزل وغير ذلك من الأفعال اللازمة.
قال أبو عمرو الطَّلْمَنْكِيُّ : أجمعوا (يعني : أهل السنة والجماعة) على أنَّ الله يأتي يوم القيامة والملائكة صفَّاً صفَّاً لحساب الأمم وعرضها كما يشاء وكيف يشاء ؛ قال تعالى : «هَلْ يَنظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأمْرُ» ، وقال تعالى : «وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفَّاً صَفَّاً». قال : وأجمعوا على أنَّ الله يَنْزل كل ليلة إلى سماء الدنيا على ما أتت به الآثار كيف شاء ، لا يحدون في ذلك شيئا. ثم روى بإسناده عن محمد بن وضاح ؛ قال : وسألت يحيى بن معين عن النُّزول ؟ فقال : نعم ؛ أقر به ، ولا أحِدُّ فيه حَدَّاً.
والقول الثالث : الإمساك عن النفي والإثبات ، وهو اختيار كثيرٌ من أهل الحديث والفقهاء والصوفية ؛ كإبن بطة وغيره ، وهؤلاء فيهم من يعرض بقلبه عن تقدير أحد الأمرين ، ومنهم من يميل بقلبه إلى أحدهما ، ولكن ؛ لا يتكلم لا بنفي ولا بإثبات.
والذي يجب القطع به أنَّ الله ليس كمثله شيء في جميع ما يصف به نفسه، فمن وصفه بمثل صفات المخلوقين في شيء من الأشياء ؛ فهو مخطيءٌ قطعاً ؛ كمن قال : إنه ينْزل فيتحرك وينتقل كما يَنْزل الإنســان من السـطح إلى أسفل الدار ؛ كقول من يقول : إنه يخلو منه العرش!فيكـون نزولـه تفريغاً لمكان وشغلاً لآخر ؛ فهذا باطل يجب تنْزِيه الرب عنه كما تقدم
وانظر كلامه رحمه الله في ((الاستقامة)) (1/70-78).
وقال الشيخ ابن عثيمين -رحمه الله- في ((إزالة الستار عن الجواب المختار)) (ص 32) :
وقد تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كثير من رسائله في الصفات على مسألة الحركة ، وبيَّن أقوال الناس فيها ، وما هو الحق من ذلك، وأنَّ من الناس من جزم بإثباتها ، ومنهم من توقف ، ومنهم من جزم بنفيها ، والصواب في ذلك أنَّ ما دل عليه الكتاب والسنة من أفعال الله تعالى ولوازمها ؛ فهو حق ثابت يجب الإيمان به ، وليس فيه نقص ولا مشابهة للخلق ؛ فعليك بهذا الأصل ؛ فإنه يفيدك ، وأعرض عما كان عليه أهل الكلام من الأقيسة الفاسدة التي يحاولون صرف نصوص الكتاب والسنة إليها؛ ليحرفوا بها الكلم عن مواضعه ، سواء عن نية صالحة أو سيئة)