ومعلوم أنه ليس في النص إثبات لفظ الجهة ولا نفيه ؛ كما فيه إثبات العلو ، والاستواء ، والفوقية ، والعروج إليه ونحو ذلك ، وقد علم أنَّ ما ثم موجود إلا الخالق والمخلوق ، والخالق سبحانه وتعالى مباين للمخلوق ، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته.
فيقال لمن نفى الجهة : أتريد بالجهة أنها شيء موجود مخلوق ؟ فالله ليس داخلاً في المخلوقات ، أم تريد بالجهة ما وراء العالم ؟ فلا ريب أنَّ الله فوق العالم مباين للمخلوقات. وكذلك يقال لمن قال : الله في جهة ، أتريد بذلك أنَّ الله فوق العالم ؟ أو تريد به أنَّ الله داخلٌ في شيء من المخلوقات ؟ فإن أردت الأول ؛ فهو حق ، وإن أردت الثاني ؛ فهو باطل
ويقـول في ((مجموع الفتاوى)) (6/39-40) :
ولا ريب أنَّ لفظ الجهة يريدون به تارة معنىً موجوداً ، وتارة معنىً معدوماً ، بل المتكلم الواحد يجمع في كلامه بين هذا وهذا ، فإذا أزيل الاحتمال ؛ ظهر حقيقة الأمر.
فإذا قال القائل : لو كان في جهــة ؛ لكانت قديمة معه. قـيل له : هذا إذا أريد بالجهة أمرٌ موجود سواه ؛ فالله ليس في جهة بهذا الاعتبار.
وإذا قال : لو رُئي ؛ لكان في جهة ، وذلك محال. قيل له : إن أردت بذلك : لكان في جهة موجودة ؛ فذلك محال ؛ فإنَّ الموجود يمكن رؤيته ، وإن لم يكن في موجود غيره ؛ كالعالم، فإنه يمكن رؤية سطحه وليس هو في عالم آخر. وإن قال : أردت أنه لابدَّ أنَّ يكون فيما يسمى جهة ، ولو معدوماً ؛ فإنه إذا كان مبايناً للعالم ؛ سمي ما وراء العالم جهة. قيل له : فلم قلت : إنه إذا كان في جهة بهذا الاعتبار كان ممتنعاً ؟ فإذا قال : لأنَّ ما باين العالم ورُئي لا يكون إلا جسماً أو متحيزاً ؛ عاد القول إلى لفظ الجسم والمتحيز كما عاد إلى لفظ الجهة. فيقال له : المتحيز يراد به ما حازه غيره. ويراد به ما بان عن غيره فكان متحيزاً عنه ، فإن أردت بالمتحيز الأول ؛ لم يكن سبحانه متحيزاً ؛ لأنه بائن عن المخلوقات ، لا يحوزه غيره ، وإن أردت الثاني؛ فهو سبحانه بائن عن المخلوقات ، منفصل عنها ، ليس هو حالاً فيها ، ولا متحداً بها ؛ فبهذا التفصيل يزول الاشتباه والتضليل
وقال الشيخ العثيمين -رحمه الله- في ((القواعد المثلى)) (ص40) :
فالأول باطل ؛ لمنافاته لعلو الله تعالى الثابت بالكتاب والسنة والعقل والفطرة والإجماع.
والثاني باطلٌ أيضاً، لأنَّ الله تعالى أعظم من أنَّ يحِيط به شيء من مخلوقاته.
والثالث حقٌّ ؛ لأنَّ الله تعالى العليّ فوق خلْقه ولا يحيط به شيء من مخلوقاته